مقدمة تفسير ابن كثير
يعد تفسير ابن كثير من أشهر التفاسير المشهورة والمتداولة بين طلبة العلم والعوام، حيث قام رحمه الله بتفسير القرآن بالقرآن وبالسنة وبما جاء عن السلف، وهذا هو المنهج الذي يجب على كل من يفسر القرآن أن ينتهجه.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن تفسير الحافظ ابن كثير -رحمة الله عليه - تفسير عظيم ومن أحسن التفاسير وأمثلها، وتفسيره يتمشى مع منهج أهل السنة والجماعة في آيات الصفات، وهو تلخيص لتفسير الإمام ابن جرير -رحمة الله عليه- شيخ المفسرين.
والحافظ ابن كثير كان يتعقب اختيارات ابن جرير المرجوحة، ويختار القول الراجح، واختيار الحافظ ابن كثير في الغالب موفق ومسدد.
وذكر الحافظ ابن كثير -رحمة الله عليه- في مقدمة هذا التفسير أن أحسن طريقة يسير عليها المفسر هي أن يفسر القرآن بالقرآن، فالآيات المجملة تفسر بالآيات المفصلة، وهكذا، أيضاً بأحاديث رسول الله ×، فالأحاديث المجملة تفسر بالأحاديث المفسرة، وهكذا، أيضاً بكلام أهل العلم، فحين يأتي كلام مجمل لبعض أهل العلم ويأتي قول آخر مفصل، فيفسر المجمل بالمفصل، هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يسلكها المفسر عندما يفسر كتاب الله.
وقد ألف العلامة الشنقيطي -رحمة الله عليه- كتاب : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن وهو مبني على هذه الطريقة وهي تفسير القرآن بالقرآن. ثم بعد ذلك تفسير القرآن بالسنة النبوية؛ فإن السنة شارحة للقرآن وموضحة له، والسنة مع القرآن لها أحوال ثلاثة:
الحالة الأولى: أن تأتي مفسرة وموضحة لما أجمل في القرآن الكريم.
الحالة الثانية: تأتي مقيدة لما أطلق في القرآن الكريم ومفصلة لما أجمل.
والحالة الثالثة: تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن العزيز، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فإذا لم يجد المفسر تفسير الآية بالقرآن الكريم رجع إلى السنة المطهرة، فإذا لم يجد في السنة المطهرة رجع إلى أقوال الصحابة.
فإن الصحابة أعلم الناس بكتاب الله؛ لأنهم عايشوا التنزيل، وكانوا يسألون النبي × عما أشكل عليهم، فإذا لم يجد فبعض المفسرين يرجع إلى أقوال كبار التابعين؛ كالإمام مجاهد بن جبر فإنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية ويسأله عنها.
وكذلك أيضاً مما ينبغي للمفسر معرفته علوم اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب وبلسان عربي مبين.
وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف:1-5].
وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام:1]، واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: ﴿وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر:75].
ولهذا قال تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص:70]، كما قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [سبأ:1].
فله الحمد في الأولى والآخرة، أي: في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله كما يقول المصلي: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس، أي: يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم؛ لما يرون من عظيم نعمه عليهم وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم.
يعني: أن الله تعالى هو المستحق لأنواع المحامد كلها، ملكاً واستحقاقاً، وهو سبحانه وتعالى المحمود في فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا افتتح كتابه العزيز بالحمد فقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2]، وقال سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف:1].
وافتتح خلقه بالحمد فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنعام:1]، وختم ذلك أيضاً إذا دخل أهل الجنة الجنة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الأعراف:43]. ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر:75]، وهو محمود على كل حال سبحانه وتعالى محمود على السراء والضراء، وعلى المحبوب والمكروه، حتى أهل النار في دخولهم النار يحمدون الله على ذلك؛ لما ظهر لهم من عدل الله سبحانه وتعالى؛ لأن أحكام الله دائرة بين العدل والفضل.
فأهل الجنة في فضله وأهل النار في عدله سبحانه وتعالى، وهو محمود على كل حال، وأهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس ويكون جزءاً من حياتهم يتنعمون به ليس فيه مشقة ولا تكريب، وإنما هو نعيم يتنعمون به وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه بهم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس:9-10].
والحمد لله الذي أرسل رسله ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165]، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:158]، وقال تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19].
فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود:17].
فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده بنص القرآن، كما قال تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم:44].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود)، قال مجاهد: يعني: الإنس والجن.
قلت: لقد أخذ بعض العلماء من هذه الآيات أنه لا يعذر أحد بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نزول القرآن، ولا يكون حكمه حكم أهل الفترة؛ لقوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19] أي: هذا القول فيه نذارة لكل من بلغه، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:15]، فمن بلغه القرآن وبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة وليس له عذر، ولاسيما في الأمور الواضحة، كالعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها.
والتوحيد الذي من أجله بعث الله رسله وأنزل كتبه، فلا عذر للمشرك في كونه يذبح لغير الله وينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله أو يطوف بغير بيت الله، أو يطلب المدد من غير الله وهو بين المسلمين، وقد بلغه القرآن وبلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19].
وقال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:15]، أما من لم تبلغه الدعوة ولم يبلغه القرآن وكان لا يتكلم بالعربية ولم يسمع شيئاً عن القرآن فهذا حكمه حكم أهل الفترة حتى تقام عليه الحجة.
واجب المسلمين تجاه كتاب الله تعالى
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن مبلغاً لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى فهمه، فقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82].
وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24].
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران:187].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران:77].
فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل عليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من إتباع كتاب الله، فعلينا -أيها المسلمون- أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد:16-17].
ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل، وهو المسئول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم.
|