|
|
|
الروح جسم نوراني علوي خفيف حي لذاته متحرك ينفذ في الأعضاء ويسري فيها، والروح خلق من أمر الله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الإسراء/ 85، فلا يستطيع البشر التعرف على ماهيتها وكنهها وحقيقتها، لأنها ليست من جنس العالم المشهود، ولذلك لا يستطيعون إدخالها معامل التحليل، ولا يستطيعون وضعها تحت المجهر، ولكنهم يرون آثارها عندما تكون في الجسد، ويحسون آثار مفارقتها للجسد.
إن الفقه والعقل والاستماع والإبصار والحركة الإرادية لا تتحقق إلا بالروح فإذا نزعت الروح بطل ذلك كله، وقد خلق الله آدم جسداً، ولكنه لم ينتفع بما خلقه الله فيه من سمع وبصر.. إلا بعد نفخ الروح فيه، (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) السجدة/ 9، (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر/ 29. وفي يوم القيامة عندما تعود الأرواح إلى الأجساد بعد النفخ في الصور يقوم الناس أحياء يبصرون (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر/ 68.
وقد ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن الروح هي الحياة التي تصاحب الخلية الانسانية الأولى، وليست أمراً آخر خارجاً عنها، وهذا مذهب أرسطو طاليس، فقد نقل عنه الشهرستاني أن الروح حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، وقد تأثر كثير من العلماء المسلمين بمقالة الفلاسفة السابقين، ومن هؤلاء المعتزلة.
وقد بين شيخ الاسلام ابن تيمية مذهب هؤلاء، فقال: (ذهب أهل الكلام المبتدع المحدث من الجهمية والمعتزلة إلى أن الروح هي الحياة القائمة بالبدن كالريح المترددة في البدن أو هي صفة من صفات البدن).
أما (مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن الروح التي تفارق البدن بالموت ليس جزءاً من أجزاء البدن، ولا صفة من صفاته).
والذي وجّه سلفنا الصالح هذه الوجهة نصوص الكتاب والسنة، فقد جاءت النصوص دالة على أن هذه الروح تنفخ في الجنين، كما جاءت مخبرة إلى أنها تقبض وتنزع، فقد حدثنا الله أنه وكل بعض ملائكته بقبض أرواح العباد (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) السجدة/ 11، ووصف لنا القرآن حالة الاحتضار والملائكة تنزع أرواح العباد (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين) الواقعة/ 83-87.
يقول القرطبي: ( (فلولا إذا بلغت الحلقوم) الواقعة/ 83، أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم، ولم يتقدم لها ذكر، ولكن المعنى معروف). وقد وصف القرآن في آية أخرى هذه الحالة، فقال: (إذا بلغت التراقي * وقيل مَن راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق) القيامة/ 26-30.
يقول القرطبي: ( (إذا بلغت التراقي) أي بلغت النفس أو الروح التراقي، والتراقي جمع ترقوه، وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهي مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة).
وحدثنا القرآن في موضع ثالث عن نزع الملائكة لأرواح الظالمين، (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الأنعام/ 93.
واستدل ابن تيمية على أن الروح المفارقة للبدن شيء آخر غير البدن وغير الحياة القائمة بالبدن بأدلة كثيرة، ومن ذلك الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم، والذي يقول الرسول (ص) فيه لأصحابه لما ناموا عن الصلاة: (إن الله قبض أرواحكم حيث شاء وردها حيث شاء)، ويقول بلال لرسول الله (ص): (يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك وأورد قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) الزمر/ 42).
وأورد الحديث الذي ثبت في الصحيحين عن النبي (ص) أنه كان يقول إذا نام: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، واستدل أيضاً بما ثبت في صحيح البخاري: (إن الشهداء جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش).
واستدل أيضاً بما ثبت بأسانيد صحيحة: (أن الانسان إذا قبضت روحه فتقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي راضية مرضياً عنه، ويقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت تسكن في الجسد الخبيث، اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك) وأورد الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر).
وقد عقب على هذه النصوص قائلاً: (فقد سمى المقبوض وقت النوم روحاً ونفساً، وسمي المعروج به إلى السماء روحاً ونفساً، لكن تسمى نفساً باعتبار تدربيه للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه، فإن لفظ (الروح) يقتضي اللطف).
وبين الشيخ ابن تيمية (ره) أن الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان غير المعنى الذي سبق ذكره، (فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء في عصره بالروح، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي نفسه، وبين الشيخ أنه قد يراد بنفس الشيء ذاته وعينه، وهذا كثير في كتاب الله كقوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) التحريم/ 6، وقوله: (كتب على نفسه الرحمة) الأنعام/ 12، وهذا غير معنى النفس الذي هو بمعنى الروح).
وعرّج الشيخ ابن تيمية (ره) على ما ذكره القرآن من أن النفوس ثلاثة: النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة، وبين أن هذه صفات وأحوال لذات واحدة، فالنفس الانسانية نفس واحدة، فإذا غلب عليها اتباع الهوى بفعل المعاصي فهي الأمارة بالسوء، وإذا كانت تذنب فتلوم صاحبها حتى يتوب فهي اللوامة، فإذا كانت محبة للخير مبغضة للشر بحيث أصبح ذلك خلقاً وسجية لها فهي المطمئنة.
وأجاب الشيخ عن قول سائله: (هل للروح كيفية)؟ فبين أن هذا سؤال مجمل، فإن أراد السائل أن الروح يمكن أن تعلم صفاتها وأحوالها، فالجواب: أن هذا مما يعلم، وإن أراد أنها من جنس ما نشاهده من الأجسام، فالجواب أن الروح ليست كذلك، فإنها ليست من جنس العناصر المعروفة كالماء والهواء والنار والتراب، ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعادن، فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود.
وعرج الشيخ في إجابته على مسكن الروح من الجسد، وبين أنه لا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كانت فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
والذي حققه الشيخ أن الروح التي هي النفس لها تعلق بالقلب والدماغ، وأن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب. |
|
|
|
|
|
|