الايمان بالقدر أصل من أصول الإيمان، فلاإيمان لمن أنكره أوآمن بقدر وكذب بقدر، وقد عني العلماء بتقرير هذا الأصل العظيم وتحريره لكثرة الشبهات حوله ، وأفردوا لأدلته كتبا خاصة ،ككتاب القدرمن صحيح البخاري وكتاب القدر للفريابي . وللقدر مراتب لايتحقق إيمان عبد إلا باستكمالها ، وهي :-
1- مرتبة العلم ؛ بمعنى الإيمان بسبق علم الله تعالى بحال كل مخلوق وعمله ومآله قبل وجوده . وهذه المرتبة محل إجماع بين المسلمين إلا ما يذكر عن القدرية الأولى فإنهم أنكروها وزعموا أن الأمر أنف ؛ أي أن الله تعالى لا يعلم الكائنات إلا بعد وجودها . وقد أنكر مقالتهم ابن عمر وعلماء السلف وصرح بعضهم بكفرهم بهذه المقالة المنكرة . وممن ضل في هذه المرتبة غلاة الشيعة؛ فإنهم يصفون الله تعالى بالبداء ؛ وهو ظهور أمر خفي على الله من قبل !! وكذلك ضل في هذه المرتبة الفلاسفة الإلهيون ؛ فإنهم يزعمون أن علم الله تعالى إنما يتعلق بالكليات الثابتة دون الجزئيات المتغيرة . وهذا يعني أن الله تعالى لا يعلم شيئا عن هذا العالم كله ، وأن علمه إنما يتعلق بالعقول العشرة التي تخيلوها ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .
2- مرتبة الكتابة ؛ وذلك بالإيمان بأن الله تعالى كتب مقاديرالخلائق قبل وجودهم، وأن أعمالهم وأحوالهم ومآلهم تجري على ما سبق في علم الله تعالى وكتابه،قال تعالى ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ) ، وقال) كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء )، وقال (إن أول ماخلق الله القلم فقال له أكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شئ حتى تقوم الساعة ) . وهذه الكتابة هي أصل التقادير ؛ فلا يدخلها محو ولا إثبات ألبتة ، قال تعالى ( يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ؛ أي أصله الذي لايغير ولايبدل ، وهو اللوح المحفوظ ؛ فإنه أصل جميع كتب التقادير العامة والخاصة ؛ وهي التقدير الحولي العام ليلة القدر والتقدير الخاص ببني آدم يوم الميثاق أولا ثم التقدير الخاص بكل واحد منهم بعينه ؛ وهو الذي يحصل لكل جنين في أول الأربعين الثانية أونهاية الأربعين الثالثة ( فيرسل الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه واجله وعمله وشقي أو سعيد ). وهذه الكتابة تقبل المحو والإثبات بأسباب معينة جاءت بها النصوص ؛ كصلة الرحم ، ففي الحديث ( من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ، وكحسن الجوار وحسن الخلق ففي الحديث (حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار ) ، وكبر الوالدين لحديث ( من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبروالديه وليصل رحمه )، وكأفعال الخير والمعروف ففي الحديث(صنائع المعروف تقي مصارع السوء ) ، وكالدعاء فإنه ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، ففي الحديث ( لايرد القضاء إلا الدعاء ) . فعلى المسلم أن يحرص على هذه الأسباب حتى يبارك له فيما قدر له من الخير ، ويدرأ عنه ماشاء الله مما قدر عليه من الشر .
3- مرتبة المشيئة ؛ فحركات الكون وسكناته بمافي ذلك أفعال العباد خيرها وشرها كلها واقعة بمشيئة الله تعالى وإرادته الكونية ، قال تعالى:(من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )، وقال:(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله مافعلوه فذرهم وما يفترون )، وقال: (وماتشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما), وقال:(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعدفي السماء).
4- مرتبة الخلق ؛فالعالم كله علويه وسفليه بمافي ذلك العباد وأفعالهم كلهم من خلق الله تعالى وحده ، قال تعالى الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل)، وقال والله خلقكم وماتعملون ) ، وفي الحديث:( إن الله خلق كل صانع وصنعته).
وقد خالف السلف في هذا المعتقد طائفتان مشهورتان ؛ القدرية الثانية والجبرية ؛ فأنكرت القدرية الثانية (المعتزلة والزيدية والشيعة الإمامية) عموم المشيئة والخلق ؛ وزعموا أن العبد يخلق فعله ؛ ولهذا قالوا باختيار العباد اختيارا مطلقا . وهذا المعتقد يناقض الأدلة المذكورة آنفا في مرتبة المشيئة والخلق ويستلزم الوقوع في شرك الربوبية ؛ لأن كل عبد بزعمهم مستقل بإيجاد فعله بمعزل عن قدرة الرب ومشيئته ؛ ولهذا سماهم السلف بمجوس الأمة لشبه قولهم بمذهب المجوس في القول بالخالقين !
وفي المقابل غلت الجبرية في التعلق بنصوص القدر حتى أنكرت أثر العبد في فعله ، وزعمت أنه مع القدر كالشجرة في مهب الريح . وهذا يناقض الشرع والواقع ؛ فقد دل الشرع على ثبوت مشيئة العبد وقدرته ووقوع أفعاله الاختيارية تبعا لها ، قال تعالى فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) ، وقال فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ،ولكنها ليست مشيئة مستقلة وإنما هى تابعة لمشيئة الله تعالى (وماتشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين )؛ ولهذا كان الصحيح أن الإنسان مع القدر ليس بمخير كما قالت القدرية وليس بمسير كما قالت الجبرية وإنما هو ميسر ؛ فمن كان أهلا للخير يسره الله له بفضله تعالى ورحمته وإلا خذله وحرمه بعدله سبحانه وحكمته . وهذا هو الذي نطقت به النصوص ، قال تعالى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) ، وقال:(مامنكم من نفس منفوسة إلاقدعلم الله مكانها من الجنة والنار شقية أم سعيدة . فقال رجل من القوم : يارسول الله أفلا ندع العمل فنتكل على كتابنا فمن كان من أهل السعادة صار إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يعني صار إلى الشقاوة ؟ فقال رسول الله :(اعملوا فكل ميسر من كان من أهل السعادة يسر لعملها ومن كان من أهل الشقاوة يسر لعملها). وقال عمر بن الخطاب:(قلت :يارسول الله أرأيت عملنا هذا على أمر قد فرغ منه أم على أمر نستقبله ؟ فقال رسول الله بل على أمر قد فرغ منه . فقال عمر : ففيم العمل؟ فقال رسول الله :كلا لاينال إلابعمل . فقال عمر إذن نجتهد ) وكذلك قال سراقة ابن مالك فالآن نجد، الآن نجد، الآن نجد )؛ فلم يفهموا من الإيمان بالقدر تعطيل الأسباب وإنما فهموا الجد والاجتهاد في مباشرتها ؛ لأنها من قدر الله تعالى وسنته في خلقه .
وينبغي للمسلم أن يعتصم بالنصوص في دينه عامة وفي الإيمان بالقدر خاصة ؛ فإن الضلالات في القدر لاتكاد تنحصر، وبعضها من إرث الجاهلية الأولى ؛ كاتخاذ القدر حجة في تعطيل الشرع وتبرير الاستمرار في المعصية ، قال تعالى:(سيقول الذين أشركوا لوشاء الله ماأشركنا ولاآباؤنا)،وقال:(وقالوا لوشاء الرحمن ماعبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون)؛ فذمهم على احتجاجهم بالقدر لتبرير الاستمرار فيما هم فيه من شرك وضلالة ، وهكذا كل من اتخذ القدر حجة لدفع الحق أوتبرير ماهو فيه من باطل . ويذكر عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقطع سارق فقال ياأمير المؤمنين : سرقت بقدر الله . فقال عمر : ونحن نقطعك بقدر الله !!
وأما ماثبت من احتجاج آدم على موسى بالقدر ، وأنه حجه بذلك فإنما احتج به على مصيبة الخروج من الجنة ، والقدر يحتج به في المصائب لافي المعائب . وكذلك فإنه احتج به على الذنب بعد التوبة منه لالرد الحق أو تبرير الاستمرار في الذنب . والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .