لا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحققها بمعنى الأمر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل .
وما تمحله بعض المنتسبين الى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقاً بينها وبين ما يترائى من ظواهر الأبحاث الطبيعية " العلمية " اليوم تكلف مردود اليه .
والذي يريده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقته نذكره في فصول من الكلام .
1- تصديق القرآن لقانون العلية العامة :
إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسباباً ويصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل وتعتمد عليه الأبحاث العلمية والأنظار الاستدلالية , فإن الإنسان مفطورعلى أن يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد وإرتياب . وكذلك العلوم الطبيعية وسائر الأبحاث العلمية تعلل الحوادث والأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل , ولا نعني بالعلة إلا أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلاً تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب , كدلالة التجربة على أنه كلما تحقق احتراق لزم أن يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك , ومن هنا كانت الكلية وعدم التخلف من أحكام العلية والمعلولية ولوازمهما .
وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلم فيه من موت وحياة ورزق وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه , وان كان يسندها جميعاً بالآخرة الى الله سبحانه لفرض التوحيد .
فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة , بمعنى أن سبباً من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتباً عليه بإذن الله سبحانه , وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.
2- إثبات القرآن ما يخرق العادة :
ثم ان القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهورة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول الموجود , وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها الى عدة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد ( ص ) فانها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة .
لكن يجب أن يعلم أن هذه الأمور والحوادث وإن أنكرتها العادة واستبعدتها إلا أنها ليست أموراً مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجابي والسلب يجتمعان معاً و يرتفعان معاً من كل جهة , وقولنا الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه , وقولنا الواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات , كيف وعقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير إنكار ورد ولوكانت المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شيء ولم ينسبها أحد الى أحد؟!.
على أن أصل هذه الأمور اعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحي الى ميت والميت الى الحي وتحويل صورة الى صورة وحادثة الى حادثة ورخاء الى بلاء وبلاء الى رخاء , وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعحزة الخارقة هو أن الأسباب المادية المشهورة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير , مثلاً العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالي وغن أمكن أن يصير إنساناً حياً لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال الى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط اتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن .
وكما أن الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي , لكونه معتمداً على السطح المشهود من نظام العلة والمعلول الطبيعيين , أعني به السطح الذي يستقر عليه التجارب العلمية اليوم والفرضيات المعللة للحوادث المادية.
إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالاً ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه , فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحققها ريب.
وهذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان أمواج مجهولة الكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الإرتباطات الشاقة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحوذلك .
وهذه الفرضية لو تمت واطردت من غير انتقاض لأدت الى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعاً أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة والقوة ولساقت جميع الحوادث المادية الى التعلل والارتباط بعلة واحدة طبيعية.
فهذا قولهم والحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة , وبعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب وروابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث لم يتحقق وجوده .
وأما القرآن الكريم فإنه وإن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الأخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية والخارقة للعادة ( على ما نحسبه ) بتشخيص اسمه وكيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا أنه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سبباً مادياً بإذن الله تعالى , وبعبارة أخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده الى الله سبحانه ( والكل مستند ) مجرى مادياً وطريقاً طبيعياً , به يجري فيض الوجود منه تعالى اليه . قال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً)( الطلاق /3 ).فإن صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله وتوكل عليه وإن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسباباً تقضي بخلافة وتحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة , كما يدل عليه أيضاً قوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان )( البقرة / 186 )., وقوله تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) ( المؤمن / 60 ) ., وقوله تعالى : ( أليس الله بكاف عبده ) ( الزمر / 36 ).ثم الجملة التالية وهي قوله تعالى : ( إن الله بالغ أمره ) ( الطلاق / 3 ). , يعلل إطلاق الصدر , وفي هذا المعنى قوله : ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( يوسف / 21 ) وهذه جملة مطلقة غير مقيدة بشيء البتة , فلله سبحانه سبيل الى كل حادث تعلقت به مشيئته وإرادته وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك .
وهذا يحتمل وجهين : أحدهما أن يتوسل تعالى من غير سبب مادي وعلة طبيعية , بل مجرد الإرادة وحدها , وثانيهما : أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقة إلا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى : ( قد جعل الله لكل شيء قدراً ) , تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شيء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه , فإن له قدراً قدره الله سبحانه عليه , وارتباطات مع غيره من الموجودات , واتصالات وجودية مع ما سواه , لله سبحانه أن يتوسل منها اليه وإن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غر مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتى تطيع في حال وتعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات واتصالات له أن يبلغ الى كل مايريد من أي وجه شاء وليس هذا نفياً للعلية والسبية بين الأشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء واراد
, ففي الوجود علية وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة ( ولذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية ) بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه .
وهذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) ( الحجر / 21 ) و وقوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) ( القمر / 49 ) .وقوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ( الفرقان / 2 ) ., وقوله تعالى : ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى )( الأعلى / 3 ) , وكذا قوله تعالى : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) ( الحديد/ 22) . , وقوله تعالى : ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ) ( التغابن / 11 ). فإن الآية الأولى وكذا بقية الآيات تدل على أن الاشياء تنزل من ساحة الإطلاق لى مرحلة التعين والتشخص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدم على الشيء ويصاحبه , ولا معنى لكون الشيء محدوداً مقدراً في وجوده إلا أن يتحدد ويتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات والموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الأخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشيء ويعين وجوده ويحدده ويقدره فما من موجود مادي إلا وهو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.
ويمكن أن يستدل أيضاً على ما مر بقوله تعالى : ( ذلكم الله ربكم خالق كل شيء ) ( المؤمن / 62 ) , وقوله تعالى : ( ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ) ( هود / 56 ) . , فان الآيتين بانضمام ما مرت الإشارة اليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب .
وذلك أن الآية الأولى تعمم الخلقة لكل شيء فما من شيء إلا وهو مخلوق لله عز شأنه , والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والإيجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير اختلاف يؤدي الى الهرج والجزاف.
والقرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام فيما بين الموجودات المادية , ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سوا كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف , ووتيرة واحدة في استناد كل حادث فيه الى العلة المتقدمة عليه الموجبة له .
ومن هنا يستنتج أن الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها وبين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الأحكام والخواص , كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة وفي خوارق العادة كما مر.
3- القرآن يسند ما أسند الى العلة المادية الى الله تعالى :
ثم ان القرآن كما يثبت بين الأشياء العلية والمعلولية ويصدق سببية البعض للبعض كذلك يسند الأمر في الكل الى الله سبحانه فيستنتج منه أن الأسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير والمؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه . قال تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ) ( الأعراف / 53 ) . , وقال تعالى: ( لله ما في السموات وما في الأرض ) ( البقرة / 284 ) . , وقال تعالى: ( له ملك السموات والأرض )( الحديد / 5 ). , وقال تعالى : ( قل كل من عند الله ) ( النساء / 77 ) . الى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة علىأن كل شيء مملوك محض لله لا يشاركه فيه أحد , وله أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد , وليس لأحد أن يتصرف في شيء منها إلا من بعد أن يأذن الله لمن شآء ويملكه التصرف من غير استقلال في هذا التمليك أيضاً , بل مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الآذن, قال تعالى: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء ) ( آل عمران / 26 ). وقال تعالى : ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( طه / 50 ) ., الى غير ذلك من الآيات , وقال تعالى أيضاَ : ( له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( البقرة / 255 ) , وقال تعالى : ( ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ( يونس / 3 ).
فالأسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى , وهي غير مستقلة في عين أنها مالكه . وهذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة والإذن , فمن المعلوم أن الاذن إنما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه , والمانع أيضاً إنما يتصور فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره ويحول بينه وبين تصرفه .
فقد بان أن في كل السبب مبدئاً مؤثراً مقتضياً للتأثير به يؤثر في مسببه , والأمر مع ذلك لله سبحانه .
4- القرآن يثبت تأثيراً في نفوس الأنبياء في الخوارق :
ثم إنه تعالى قال : ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ) ( المؤمن/ 78 ).
فأفاد إناطة إتيان أية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات المعجزة من الأنبياء وصدورهاعنهم إنما هو لمبدأ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقف في تأثيره على الإذن كما مر في الفصل السابق.
وقال تعالى : ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ( البقرة / 102 ).والآية كما أنها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على أن السحر أيضاً كالمعجزة في كونه عن مبدأ نفساني في الساحر لمكان الاذن .
وبالجملة جميع الأمور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحراً أو غير ذلك ككرامات الأولياء وسائر الخصال المكتسبة بالارتياضات والمجاهدات جميعها مستندة الى مباد نفسانية ومقتضيات ارادية على ما يشير اليه كلامه سبحانه , إلا أن كلامه ينص على أن المبدأ الموجود عند الأنبياء والرسل والمؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب وفي كل حال , قال تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورين وإن جندنا لهم الغالبون ) ( الصافات / 173 ) .,وقال تعالى: ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) ( المجادلة / 21 ). ,وقال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم الاشهاد ) ( المؤمن / 51 ) .والآيات مطلقة غير مقيدة .
ومن هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور امر وراء الطبيعة وفوق المادة .فإن الأمور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدراً واحداً عند التزاحم والمغالبة , والأمور المجردة أيضاً , وان كانت كذلك إلا انها لا تزاحم بينها ولا تمانع إلا أن تتعلق بالمادة بعض التعلق , وهذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإرادة الله سبحانه إذا قابل مانعاً مادياً أفاض إمداد على السبب بما لايقاومه سبب مادي يمنعه , فافهم.
5- القرآن كما يسند الخوراق الى تأثير النفوس يسندها الى أمر الله تعالى :
ثم ان الجملة الأخيرة من الآية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى : ( فإذا جاء أمر الله قضي بالحق ) الآية , تدل على ان تأثير هذا المقتضى يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الاذن الذي كان يتوقف عليه أيضاً فتأثير هذا المقتضى يتوقف على مصادفته الأمر أو اتحاده معه . وقد فسر الأمر في قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) ( يس / 82 ) . , بكلمة الايجاد وقول : كن . وقال تعالى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله )( الدهر / 29, 30 ) ., وقال : ( إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شآء منكم ان يستقيم .وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) ( التكوير 27,28,29)., دلت الآيات على أن الأمر الذي للإنسان أن يريده وبيده زمام اختياره لا يتحقق موجوداً إلا أن يشاء الله ذلك بان يشاء أن يشاء الإنسان ويريد إرادة الانسان , فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الإنسان الإرادية وإن كانت بيد الإنسان بإرادته لكن الإرادة والمشيئة ليست بيد الإنسان بل هي مستندة الى مشيئة الله سبحانه , وليست في مقام بيان أن كل مايريده الإنسان فقد أراده الله فإنه خطأ فاحش ولازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الإنسان , تعالى الله عن ذلك . مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى : ( ولوشئنا لآتينا كل نفس هداها ) ( السجدة / 13 ).. وقوله تعالى : ( ولو شاء ربك لآمنمن في الأرض كلهم جميعاً ) ( يونس / 99)., الى غير ذلك , فإرادتنا ومشيئتنا اذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله ومشيئته لها وكذا أفعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا ومشيئتنا بالواسطة .وهما: أعني الإرادة والفعل جميعاً متوقفان على أمر الله سبحانه وكلمة كن .فالأمور جميعاً سواء كانت عادية أو خارقة للعادة , وسواء كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة , أو في جانب الشر كالسحر والكهانة مستندة في تحققها الى أسباب طبيعية , وهي مع ذلك متوقفة على إرادة الله , لاتوجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب او يتحد مع أمر الله سبحانه.
وجميع الأشياء وان كانت من حيث استناد وجودها الى الامر الآلهي على حد سواء بحيث اذا تحقق الاذن والامر تحققت عن اسبابها , واذا لم يتحقق الاذن والامر لم تتحقق , اي لم تتم السببية الا ان قسما منها وهي المعجزة من الانبياء أو ما سأله عبد ربه بالدعاء لا يخلوا عن ارادة موجبة منه تعالى وامر عزيمة كما يدل عليه قوله : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)( المجادلة / 21 ).
الآية ,و قوله تعالى : ( أجيب دعوة الداع اذا دعان )( البقرة / 186).الآية , وغير ذلك من الآيات.
6- القرآن يسند المعجزة الى سبب غير مغلوب :
( فقد تبين أن المعجزة كسائر الامور الخارقة للعادة لاتفارق الاسباب العادية في الاحتياج الى سبب طبيعي وان مع الجميع اسباباً باطنية وان الفرق بينها ان الامور العادية ملازمة لأسباب ظاهرية تصاحبها الأسباب الحقيقية الطبيعية غالبا او مع الاغلب ,ومع تلك الاسباب الحقيقية ارادة الله وامره , والامور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة الى اسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالاذن والارادة كاستجابة الدعاء ونحو ذلك منغر تحد يبتنى عليه ظهور حق الدعوة وان المعجزة مستندة الى سبب طبيعي حقيقي باذن الله وامره اذا كان هناك تحد يبتنى عليه صحة النبوة والرسالة والدعوة الى الله تعالى وان القسمين الآخرين يفارقان سائر الاقسام في ان سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات).
فإن قلت : فعلى هذا , لو فرضنا الإحاطة والبلوغ الى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبي أيضاً ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها الا بحسب النسبة والاضافة فقط فيكون حينئذ امر ما معجزة بالنسبة الى قوم غير معجزة بالنسبة الى اخرين , وهم الملطعون على سببها الطبيعي الحقيقي , وفي عصر دون عصر , وهو عصر العلم , فلو ظفر البحث العلمي على الاسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق . ونتيجة هذا البحث ان المعجزة لا حجية فيها الا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها.قلت :كلا , فليست المعجزة معجزة من حيث انها مستندة الى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن اسمها عند ارتفاع الجهل وتسقط عن الحجية , ولاانها معجزة من حيث استنادها الى سبب مفارق للعادة , بل هي معجزة من حيث انها مستندة الى امر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة , وذلك كما ال الامر الحادث من جهة استجابة الدعاء كرامة من حيث استنادها الى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع انه يمكن ان يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير انه حينئذ امر عادي يمكن ان يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب اخر اقوى منه .
7- القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلاً عامياً :
وههنا سؤال وهو : أنه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقية دعوى الرسالة , مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته الى الله سبحانه وبين صدور امر خارق للعادة عن الرسول على ان الظاهر من القرآن الشريف , تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الأنبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد ( ص ) فانهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعواهم فأجابوا فيما سألوا وجاؤوا بالآيات .
وربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم اممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى عليه السلام وهارون : ( اذهب انت واخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ) ( طه /42 )., وقال تعالى في عيسى عليه السلام : ( ورسولا الى بني اسرائيل اني قد جئتكم بآية من ربكم اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيراً باذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تاكلون وما ندخرون في بيوتكم ان في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين )( آل عمران / 49). وكذا اعطاء القرآن معجزة للنبي ( ص ) . وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ماأتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور امر يخرق العادة عنهم . |
|
|
|